على طريقة أبي جعفر المنصور

د. مروان الغفوري
الجمعة ، ٢٩ يوليو ٢٠٢٢ الساعة ٠٢:١٩ صباحاً
مشاركة |

على طريقة أبي جعفر المنصور مع أبي مسلم الخرساني: من المحتمل أن عليا قد اغتال الأشتر!

لنذهب بعيدا، إلى العام 37/38 للهجرة: يحمل الأشتر رسالة من علي إلى أهل مصر يطلب منهم الامتثال لواليه (الذي لا يخاف). لا ندري لماذا أشار علي إلى تلك الميزة في مبعوثه في حين كان بمقدوره أن يحدثهم عن العدل والنظام. ربما كان يفصح عن مخاوفه التي لا تبارحه حين يفكر بالرجل. وبجوار تلك الرسالة حمل خطابا سيطلق عليه "عهد علي إلى مالك الأشتر".

شيئا آخر قاله في رسالته: إن مالك الأشتر لي كما كنت أنا لرسول الله. هذا التعالق بين علي والأشتر، رغم اعتراف الأخير بقتل عثمان، يقول أكثر مما نريد قوله. كان الرجلان رفيقي سلاح وسيلاحظ الأشتر إصرار علي على احتكار الدولة في ذويه، ويشاهد بأم عينه كيف أرسل علي غلاما حدثا لا يتجاوز السادسة والعشرين (ربيبه محمد بن أبي بكر) ليجعله واليا على مصر. تؤكد مصادر تاريخية عديدة أن الرجلين ضاقا ذرعا ببعضهما، وأن عليا أسر إلى قريبين منه أنه يتخوف من الرجل ومن معه. كان قد عبر عن ذلك الخوف أمام الوسطاء في المدينة قبل خروجه إلى العراق، قال إنهم قبائل وعسكر وأن لهم مددا وأعوان (البداية والنهاية، ج. ١٠). يبادله الأشتر الريبة نفسها، وقد لاحظ أن عليا ينأى عنه ويخلق لنفسه منعة (جدارا هاشميا). تذاكي علي أمام الوسطاء، قبل هجرته إلى العراق، وتكراره القول إنه سيعاقب المتمردين حين تستتب له الأمور لم يغب عن ذاكرة الأشتر وربعه. تتصاعد حرب باردة بين الرجلين ويقرر علي فجأة منح الأشتر حكم مصر. سيقال إن أهل مصر تململوا من حكم ابن أبي بكر بسبب طيشه وقلة خبرته، وسيكون ذلك التبرير مقنعا للأشتر الذي توجس أول الأمر. كان يفكر كقاطع طريق، وهو يعرف حيل الحلفاء ومكرهم. أما علي فيسر إلى مقربين منه أنه أراد أن يبدد شمل المتمردين في الأمصار كي يستخلص الدولة لنفسه وذويه، وأن يعيد صياغتها (هوشمتها) من الداخل بلا ضغط. 

عهد علي إلى الأشتر: خمس صفحات من الوصايا، رطانة لغوية ينتمي كودها اللغوي إلى القرن الخامس الهجري. أريد للنص أن يكون فتحا علويا في السياسة والأخلاق، يعادل في حمولته السياسية والأخلاقية خرافة أخرى اسمها المبيت في فراش النبي ليلة الهجرة (وسنأتي على هذه الحكاية فيما بعد).

ذلك العهد المهيب، الذي ارتقى ليكون "أخ القرآن"، لا وجود له في كل كتب السير، بالإجماع، ويظهر لأول مرة في كتاب ألفه الشريف الرضي سنة ٤٠٠ للهجرة، أي بعد مقتل علي بثلاثة قرون ونصف!

 ليس للنص أي إسناد، منقطع كليا عن تاريخه. الأمر لا ينتهي هنا، فثمة أصل وحيد لذلك النص الذي يساق علي من خلاله بوصفه السياسي الأكثر حكمة في التاريخ. ففي كتاب السير والملوك للطبري، الجزء ١١، نجد العهد الذي كتبه والي خراسان طاهر حسين (عميد الطاهرية) إلى ابنه عبدالله حين ولاه المأمون على الرقة وما حولها مطلع القرن الثالث الهجري. كان طاهر حسين رجلا حكيما ومثقفا سياسيا، كتب رؤيته الأخلاقية والسياسية في "عهد" من عشرين صفحة، وهو من أفضل ما كتبه العرب في مسائل الإدارة والدولة. وفيما يبدو فقد سطا الشريف الرضي (وهو ابن نقيب الطالبيين ببغداد، وتلك ليست مصادفة) على النص وراح يحاكيها في رطانة لغوية يكشف كودها اللغوي والدلالي عن زمن كتابتها. نص طويل، من رجل شهير له مريدوه، إلى قائد شهير له مشايعوه، يختفي لأربعة قرون! ليس ذلك العهد وحسب بل ٢٤١ خطبة لعلي، ومواعظ ورسائل عديدة، كل ذلك الحشد من النصوص يتخلق فجأة من العدم دفعة واحدة مطلع القرن الخامس. لنستمع إلى الذهبي ليخبرنا عن نهج البلاغة، كتاب علي وحكمته وفلسفته: كتاب مكذوب. أما ابن تيمية فيتحدى أن يأتيه أحد بمصدر واحد لتلك النصوص في كل مؤلفات المؤرخين والمحدثين (عدا السرقات المباشرة- وفقا لابن تيمية- من البيان والتبيين للجاحظ). 

لنعد إلى الأشتر ونتتبعه في طريقه إلى مصر: 

 كأن العهد الذي اخترعه الشريف الرضي، ناسبا إياه إلى علي، محاولة متأخرة من مثقف هاشمي لصرف الأنظار عن السياق التاريخي الذي أحاط بموت الأشتر.

 كان علي يدرك أنه يتعامل مع محارب قاد الاضطرابات من العراق حتى الحجاز، معه مدد وأعوان، وقد صنعت له الجمل وصفين صورة البطل الذي لا يقهر، والعبقري الذي شق جيش معاوية وكاد يفتك به لولا الخديعة. تلك الصورة اللامعة، فضلا عن موهبة خطابية ولغوية (الذهبي، سير أعلام النبلاء)، جعلت الأشتر بديلا محتملا لحاكم في الستين من عمره تصفه كتب السير بالبدين، الأصلع كالطاسة، ناتئ الجبهة، عظيم البطن، الأعمش، قليل الأسنان، وثقيل الحركة. 

وقبل أن يتوغل في أراضي مصر يفقد الأشتر حياته في ظروف غامضة، وتقيد العملية ضد مجهول. سيقال إنه أكل عسلا واختنق، وستحيل بعض المرويات موته إلى معاوية، وأخرى إلى غلام لعثمان. وسنقرأ عند الطبري في تاريخه عن عملاء دفعهم معاوية لاغتيال الرجل قبل أن يصل مصر. كل تلك الروايات لا تستقيم داخل سياق تاريخي معقول، فكيف يعلم معاوية بتولية الأشتر، ويتتبع طريقه حتى حدود مصر، ويتمكن من اختراق موكبه واغتياله. لنأخذ كل هذا الهراء التاريخي داخل صورة ذلك الزمان: أمصار متباعدة، لا وسائل اتصال، وأجواء حرب وشك. 

 يموت خصم جديد لعلي، أو يقتل، فيبكي فراقه قائلا "لا يرتقيه الحافر، ولا يوفي عليه الطائر" (نهج البلاغة). حدث قبل ذلك أن بشر قاتل الزبير بالنار، وتلك سابقة في الإسلام أن يدفع القائد جنوده للقتال ثم يبشرهم بالجحيم. كان علي يفعل الشيء ونقيضه، ويستعين بترزية أحاديث وقصاصين جعلوه متساميا فوق البشر، حتى إن ابن كثير وهو يسرد مقتل عثمان ختم القصة قائلا "وكان قدرا مقدورا" لئلا ينزلق إلى تساؤلات حول دور علي قد تضعه في درجة المنافق "لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق"، قال علي عن نفسه. وهو تحوير مذهل لوصف قاله النبي في الأنصار، كما في صحيح مسلم. 

 بعد عام سيفتك علي بالآلاف من رجاله السابقين في معركة النهروان ممن اعترضوا على إدارته العسكرية والسياسية، ورأوا أن قدراته الفقهية أقل من أن تكون موضع احترام. سيسميهم الخوارج، وسيحتمي بالقدرة المعرفية لابن عباس، الذي سيدير الجدل معهم بينما سيلزم الحاكم منزله كعادته، في انتظار ما تجود به قدرة ابن العم. سيندفع رجاله، كالعادة، لتفصيل أحاديث تنال من خصومه بالصفة، وأحيانا بالاسم، حتى ليقال إنهم مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية. 

ومن المثير، كما بينا سابقا، أن ابنه الحسن سيرسل إلى أولئك المارقين يدعوهم للقتال إلى جواره ضد جيش الشام، وبعد نقاش سيوافقون ويلتحقون بجيش "الحسن المجتبى". سرعان ما سيتخلون عنه بعد أن رأوا فرار قائده، ابن العباس، لمجرد سماعه طبول الحرب.

على أن تلك اللعبة، لعبة الإرهاب والدين والخديعة، قضت في نهاية الأمر على أول دولة علوية في التاريخ.

يتبع.. 

مروان الغفوري

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!