حزب الإصلاح.. الحيّة التي ابتعلت فيلا

د. مروان الغفوري
السبت ، ١٣ أغسطس ٢٠٢٢ الساعة ٠٣:٠٣ صباحاً
مشاركة |

في رواية الأمير الصغير، لإكزوبيري، يرسم الطفل صورة ويسأل الناس، فيجيبونه: قبعة. 

ـ لا، هذه حية ابتعلت فيلاً، ولكنها تبدو فعلاً كما لو أنها قبّعة.

الحية التي ابتعلت فيلا. هكذا يبدو حزب الإصلاح الذي ذهب، والدنيا حرب وفوضى، يبتلع الهيكل العظمي للسلطة التنفيذية، بما في ذلك الوظائف الأكثر وهمية وقذارة. ولو أن سلطة هادي افتتحت حوضاً للبورنو لقفز إصلاحي وحرسه، قائلاً: نحن نعمل في صيانة كل ما هو مؤسسي وشرعي.

كان هادي يعبث بكل شيء، وأي شيء. وكان الإصلاح هو قفازه القذر، وحائط صدّه الشرس. آلت الشرعية إلى مؤسسة الرئاسة، والرئاسة إلى الرجل وابنه التّنك، وجلس الإصلاح يمجد تلك الجثة بحسبانها البقية الأخيرة من مشروع الدولة. 

الآن دفنت الجثة في حَلّة عميقة القرار، وآلت السلطة إلى جثة جديدة تفتقر إلى كل شيء، حتى إلى الإبن التنكة. 

قدر تكرر كثيراً في التاريخ، وهو على تعقيداته زائل، فالجماعة البشرية كانت دائماً قادرة على ابتكار اجتماع جديد يضبط حركتها ويؤمّن مستقبلها. 

لنتذكر:

خرجت ألمانيا من الحرب الأول مهزومة، وحمّلت تعويضات تناهز التريليون دولار بعملة حاضرنا. جاء العام 1922 وعجزت البلاد عن دفع ما عليها فاجتاحت بلجيكا وفرنسا غرب ألمانيا. دخلت القوات البلجيكية إلى شمال الراين، القلب الصناعي للإمبراطورية المفتتة، كانت تلك البصقة تقف بشكل مباشر وراء تخلّق العملاق النازي الذي، بعد أقل من عقدين من تلك الواقعة، راح يبطش بالقارة بأسرها يمنة ويسرة. 

تكرر الأمر مع أمم كثيرة تلقت الضربات والهزائم والإذلال إلى أن تنجح واحدة منها في إخراج اللعنة من باطن البلاد. لنسمها: اللعنة.

صار البلد إلى مُزَق. بالأمس كنت أنظر إلى خارطة ألمانيا بعد حرب الثلاثين عاماً: صارت إلى مئات الدول، كل دولة أخذت لوناً في الخارطة، صورة مهولة لما يمكن أن تصعنه حرب طويلة وهجينة. الحروب تغير السياسة لبعض الوقت، وهذا ما يجعل التاريخ محايداً بإزائها إذ تبدو الهزيمة على المدى الطويل مثل النصر. فالإماميون الذين اندحروا قبل ستين عاماً استعرضوا جيشهم هذا الصباح في قلب العاصمة صنعاء. كل شيء قابل للهدم، كل شيء قابل للعمران. تهب السفن، سفينة وراء الأخرى، ويجد الغريق فرجاً. عليه فقط أن يعلم أن الله هو السفينة. تقول نكتة ألمانية إن رجلاً غرق فاقتربت منه سفينتان، قال للأولى: امض في طريقك، الله سينقذني، وهكذا قال للثانية. في السماء قال للإله غاضباً: لماذا تركتني أغرق؟ قال الإله: أرسلت إليك سفينتين، ما الذي علي أن أفعل أكثر من ذلك؟

يسري في البلاد النهر القذر، لنقل: المياه القذرة. وهي خليط قاتل من دماء المهافيف والدنابيع والدناديل [مدد]. كل الآخرين أزيحوا إلى الزاوية، دفعوا إلى الخارج. الأمر لا يتعلق بما جرى بشبوة، وإن كان ما جرى يعيد سرد الحكاية من الكلمة صفر. الجيران اشتروا طائرات وضربوا بلادنا بها. نحن الشعب الوحيد في العالم من يجرؤ الخليجيون على ضربه بالطائرات. مستقبلاً لن يكونوا قادرين على ضرب صنعاء لأن الإمامين، مدعومين من إيران، فهموا لعبة الشيطان والغزالة [هل هناك لعبة بهذا الاسم؟]. اخترعت هذا المصطلح للتو، ولا أفكر بحذفه رغم تفاهته. سيضربون الأجزاء الأخرى من البلاد، سيضربون البردعة. أخبرني رجل سافر إلى ظهران الجنوب ضمن وفد عال للحوار مع الحوثيين في تلك الأيام، قبل سنوات. في الطريق اقترب منه الجنرال السعودي، رئيس الوفد، وقال له متحسّراً إن السعودية لا تستطيع أن تمضي في الحرب إلى ما لا نهاية لإن الإخوان المسلمين "عندهم بدع في دينهم يا أخي". الإخوان ليس لديهم بدع في دينهم، الحقيقة إنها كتلة دينية واسعة ينقصها شيء واحد: أن يكون لها دين. تنهار المنازل ويفر الناس، يتدفق الطوفان ويدخل 22 مليونا في الفقر المدقع، في تلك الجلبة والهلُمّة يجثو الإصلاح على ركبتيه ويلقّط مكاسب ووظائف ويخترع أموالاً، كمن يرهّط في مقبرة. ها هو الآن عاجز عن اتخاذ أي موقف، يهدد بلغة مرتعدة: سننسحب. الحية التي ابتلعت الفيل تفكر بتجشؤ الفيل. تحتاج لمائة عام حتى تتقيء كل تلك الحمولة. قدر الإصلاح أن يبقى جزء من تلك اللعنة المستدامة، من المنظومة المتبدلة للدنابيع والمهافيف والدناديل [مدد].

شاهدنا بلادنا وهي تهوي إلى أن ارتطمت بالأرض، ثم تقفز إلى الجو على طريقة dead- cat - bounce .. القطة التي تسقط من أعلى البرج وبعد أن ترتطم بالأرض فإنها تقفز إلى الأعلى كما لو أنها لا تزال حية.

الأمثل، ربما، أن تدخل البلاد في الحقيقة كما هي، لا أن تلتقط لها صورة وهي إلى جوار حقيقتها. راح السلطان، تفككت الدولة المركزية، تفكك الشعب إلى مُزق وجزر، ذهبت البلاد في رحاب الشيطان، ما بقي من شيء، الوهم، وهم القطة وهي تقفز إلى الأعلى، هو ما يخفي الحقيقة: حقيقة أن بلادنا ماتت وغرقت في جحيمها. الحمقى فتكوا بكل شيء، حتى بكورونا. انظر إلى الدندول الجديد، يحمل الدكتوراه،  غير أنه وقع ضحية لقدره. 

الأحزاب فقدت كل شيء، اغتصبت نفسها في السر وأنجبت فناءها. العادي، اليمني العادي جداً، هو المتألم والمهزوم. لنكن واضحين: هو الذي لا يزال قادراً، بما بقي لديه من غضب ومعنى، على أن يحس بالإهانة. ما إن أهين العلم حتى غرقت الشبكة بصورة العلم، رفعه غير المحازيب، الفتيات والفتيان الذين كانوا قبل عشرة أعوام في المدرسة ولم تتح لهم الفرصة لتلقي خراء الكبار، من بهوات الثقافة والسياسة. بني مجلس رئاسي، ولأن الأمل لا بد أن يكون آخر ما يموت [مثل ألماني] ابتهج الناس بالمجلس، قيل: ربما أوقد المتغير الدولي الحاد ضوءا في آخر النفق. لا ينبغي للأمل أن يموت، جنرالات اللعبة، وهم هُنا ويقرؤون مثلكم، لا يزالون يمسكون بالأوراق، أقلّها الدوشة والتشويش. سيسمون ما جرى في شبوة نصراً لفكرة الدولة. سيهينون الحقيقة، بكل تفاصيلها، حتى معنى الدولة نفسه. سيعيشون مستقبلا إلى أن تأكلهم المنافي وتبتلعهم أقدارهم. تصدقون أن أكثر من 50 سياسياً، من الدرجة الرفيعة، ماتوا في العشرة أعوام الماضية ميتة صامتة، مكللين ب إلخ. ينشأ جيل جديد، انظروا إلى الأقيال: كانوا قبل عشرة أعوام في المدرسة. يتخلق وعي جديد: انظروا إلى شباب الروائيين والشعراء، كانوا قبل عشرة أعوام في الإعدادية. يذهب الدناديل إلى المجهول. 

جاءت شبوة كاختبار جهد، تعلّم من تعلم، وضاع قطيعٌ واسع في تلك الفخاخ الجوانية التي نصبها لنفسه. 

الأمل، ليكن الأمل، آخر ما يموت.

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!