ومضت السنوات، ونحن نحمل الوطن في حقائب الذكرى، نخبئه بين أوراقنا القديمة، في رائحة قميصٍ عتيق، أو في صورةٍ باهتة التقطناها على عجل قبل الرحيل.
كل شيء هنا في المنفى يبدو كاملاً، كل شيء متاح، كل شيء محسوب بدقة، إلا ذلك الشعور الغامر بالانتماء.
هنا نعيش، لكننا لا نحيا. نتحرك، نعمل، نتعلم، وننجز، لكن أرواحنا ما زالت متوقفة هناك، عند بوابة المطار، ترفض أن تعترف بالوداع الأخير.
في كل مساء، حين يهدأ الضجيج، وتخفت أصوات العالم من حولنا، نصغي لأنين قلوبنا، ونحاول أن نرسم بخيالنا ملامح الوطن كما كان.
نبحث عن رائحة القهوة التي كانت تفوح من نوافذ الجيران، عن صوت الباعة في الصباح، عن دفء الأمسيات حين كنا نجتمع حول طاولة واحدة، نضحك من القلب، ونحلم بلا خوف.
كنا نملك كل شيء، ولم نكن ندرك قيمة ما نملك حتى فقدناه.
المنفى ليس مكانًا جغرافيًا فقط، بل هو حالة نفسية عميقة، شعور دائم بأنك ضيف في حياة الآخرين، مهما طال بك المقام.
هنا، مهما بلغت من نجاح، ومهما حصلت على شهادات أو أموال أو امتيازات، يبقى هناك شيء ناقص، فراغ لا يملؤه شيء سوى عودة مستحيلة، أو معجزة لا تأتي.
تعلمنا أن نبتسم رغم الألم، أن نتصنع القوة بينما نحن في الداخل هشون، مكسورون، نحمل جراحًا لا يراها أحد.
تمر الأيام، ونكبر في العمر، يغزو الشيب رؤوسنا، وتغزو التجاعيد وجوهنا، لكن الوطن في قلوبنا يزداد شبابًا، يزداد نقاءً، كأن الزمن لا يمر عليه.
نروي لأطفالنا حكايات عن شوارع كانت تضج بالحياة، عن مدارس كنا نركض إليها في الصباح الباكر، عن أعياد كنا ننتظرها بفارغ الصبر، عن ضحكات كانت تملأ الأحياء وتمنحها روحًا لا تعوض. نحاول أن نرسم لهم صورة وطن لم يعرفوه، ونخشى أن يتحول في ذاكرتهم إلى مجرد أسطورة.
نحن جيلٌ تعود أن تُسلب حقوقه، أن يُحرم من أبسط أحلامه، أن يرى آخرين يتغذون على جبال من الخيرات بينما لا ينال هو إلا الفتات.
جيلٌ تعلم الصبر، وتعلم كيف يحول الألم إلى أمل، والخسارة إلى درس.
ومع ذلك، لم نفقد الإيمان بأن هناك يومًا سيعود فيه الوطن لنا، أو نعود نحن إليه، ولو في الأحلام.
كلما جلسنا معًا، نستعيد تلك الذكريات، ونضحك أحيانًا من مرارتها، وأحيانًا نبكي من شدة الحنين. نسرد الحكاية ذاتها مرارًا وتكرارًا، كأننا نخشى أن ننساها، أو نخشى أن ينساها أبناؤنا.
“كان هناك وطن”، هكذا نبدأ الحكاية، ونتركها مفتوحة على أمل أن يأتي يومٌ نكمل فيه الجملة: “وعاد الوطن، وعاد الجميع”.
ورغم كل شيء، تعلمنا في المنفى أن الوطن الحقيقي ليس فقط الأرض، بل هو الناس، هو الحب، هو الذكرى، هو الحلم الذي لا يموت.
الوطن يسكننا، مهما ابتعدنا عنه، ومهما حاولوا أن يقتلعوه من قلوبنا.
نحن أبناء وطنٍ كتبنا له، وعشنا فيه، وتغنينا بحبه بلا مقابل، لأن حبه من الإيمان، والإيمان لا يُباع ولا يُشترى.