وصلت مكتبي قبل قليل ..
نصف الموظفين لاوجود لهم ..
خجلت ان اسأل عن سبب الغياب ..
فتحت كمبيوتري وبدأت اكتب ولا شيء حولي ينبئ بوجود حياة.
هذه ليست حياة يا سادة
بل مشهد طويل لمأساة تتقن القتل وتعيد انتاج البؤس كل صباح بشكل اكثر قسوة ووحشية
ما يجري في عدن لا يشبه شيئا من معاني الحياة بل هو ترتيب دقيق للموت البطيء وانتزاع منظم لكل ما تبقى في البشر من رمق ومن طموح ومن امل.
لم يعد هناك شيء يمكن ان يطلق عليه اهالي عدن.
المصطلح الأكثر غرابة.
الوجوه ذاتها لكن الارواح خاوية النظرات مطفأة والاجساد تسير كأنها بقية اشباح فقدت البوصلة والمعنى.
هؤلاء ليسوا مواطنين يعيشون بل ناجون مؤقتون من موت يتربص بهم في الماء والكهرباء والدواء والهواء وحتى في الخبز يتنفسون الالم ويأكلون الانتظار المر.
هل قلت المر؟
نعم بل الأَمَرّ و الأَمَرّ منه.
جولة واحدة في شوارع المدينة مع مطلع النهار كفيلة ان تختصر لك حجم الفاجعة
اطفال يفترشون الارصفة بحثا عن نسمة هواء ونساء تتلصص خلف الابواب لعلها تجد في الخارج شيئا يشبه ذات النسمة.
عدن باتت سجنا كبيرا بلا جدران، مدينة تطفئ نورها كل ليلة وتشعل بدلا عنه عتمة القهر والخذلان.
عدن التي نراها اليوم لا نعرفها لم نرها من قبل بهذا الشكل المروع.
انا فتحي بن لزرق عشت سنين طويلة في هذه المدينة لكنني لم اراها قط بهذا الشكل "المروّع".
تفاصيل كثيرة لا تمت لهذه المدينة النبيلة بصلة لا وجهها كما كان ولا صوتها كما عهدناه
كل ما فيها مشوه مصلوب يحتضر على ارصفة الذكرى.
بالامس قرأت ان الصومال قررت خفض تعرفة الكهرباء وزيادة رواتب موظفيها
الصومال التي كانت ذات يوم مرادفا للخراب تقرر اليوم ان تنقذ شعبها تضيء ليلها وتفرش الامل في شوارعها.
فماذا عن عدن؟
ماذا عن هذا البلد؟
عن هؤلاء الناس!
نحن لا نعيش نحن نستنزف
نحكم من قبل حفنة من المرتزقة والعبيد وادوات رخيصة من كل الاطراف
يتنازعون على كراسي مهترئة ويتباهون بحكم شعب لا يجد حق الدواء ولا رغيف الخبز لا ماء ولا كهرباء ويظنون انهم يحكمون
اي وقاحة هذه؟
اي سقوط هذا الذي يجعل من العجز بطولة ومن الجريمة شرعية؟
هذه ليست حياة ولن تكون ابدا حياة.
ما يجري اليوم مؤامرة انتحار جماعي بادارة رسمية
كل ما حولنا يذبح المدينة والكرامة والوقت والطفولة والغد
لم يبق شيء صالح للعيش سوى الذكريات وحتى الذكرى باتت تختنق
هذه ليست حياة يا سادة
ولن تكون ..